تحدثت سورة النساء عن المرأة وأحكام المرأة، فكان لزاما وبديهيا أن تضم بين ثناياها
آيات كلها رحمة، إذ المرأة هي قطب الرحمة في الأسرة إذا كان الرجل قطب القوة، وهي عين
الرحمة في المجتمع لكل ما قد تغفل عنه العين الرجالية. عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال: (ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه
الشمس وغربت، أولهن:
"يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم"
والثانية:" والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما"
والثالثة: " يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفا"،
وفي رواية أخرى لابن مسعود رضي الله عنه:
"إن الله لا يظلم مثقال ذرة" الآية
"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه، نكفر عنكم سيئاتكم"
"إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"
"لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك"الآية
"من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما")
ذكر هذا ابن كثير في تفسيره.
يستهل الله عز وجل سورة النساء بالآية التي يقول فيها: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي
خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء،
واتقوا الله الذي تسّاءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا"، ومن خلال تأملنا
لهذه الآية تبرز لنا عدة جوانب من أهمها:
1- خطاب عام…
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم ": لنتأمل الخطاب جيدا، إنه خطاب للناس عامة، لا للأنبياء الأصفياء من عباد الله، ولا لأولياء الله المحبوبين المبشرين، ولا للمحسنين، ولا للمؤمنين، ولا للمسلمين فقط، بل هو خطاب عام غير محصور، خطاب فطري تلقائي للناس عامة، يردهم إلى الشيء الوحيد الذي يجمعهم: إنسانيتهم، ويردهم إلى ربهم الجدير بالتقوى، لأنه خلقهم، إن لم يكن إلا لذلك لحقَّت له الربوبية ووجبت عليهم العبودية، فكيف وهو
الخالق، الرزاق، المبدع الهادي إلى صراط مستقيم؟! سبحانه وتعالى عما يصفون.
2- نفس واحدة… "ً
من نفس واحدة "، إن هذه البشرية التي صدرت من إرادة واحدة، تتصل في رحم واحدة،
وتلتقي في وشيجة واحدة، وتنبت من أصل واحد، وتنتسب إلى نسب واحد: آدم عليه السلام. نفس واحدة تلك التي خلقها الله عز وجل بنفسه، ونفخ فيها من روحه، وفضلها على جميع خلقه، وأسجد لها الملائكة الذين عنده لا يفترون عن عبادته، ثم حمَّلها الأمانة
واستخلفها في أرضه.
3- رجل و امرأة…
" وخلق منها زوجها " ليكون الأصل واحدا، من ذات النفس الأولى فطرة، وطبعا، وتكريما، وأمانة. إنما الفارق في الخصائص التي خص بها الله عز وجل كلا من الجنسين الذكر والأنثى لأداء الأمانة، قال الله تعالى: "ليس الذكر كالأنثى" آل عمران الآية 36، فلكل زاويته
وجبهته، ولكل وظيفته.
تمايز وتكامل، نفس خلقت لنفس، وشطر مكمل لشطر، زوجان متكاملان.
4- ثم رجالا كثيرا و نساء
" وبث منهما رجالا كثيرا و نساء "، كان بإمكان الله عز وجل أن يخلق الرجال والنساء
جميعا دفعة واحدة تجمعهم فقط وشيجة العبودية لخالقهم، لكن لمضاعفة الروابط التي
تجمعهم، بث بعضهم من بعض، ثم جعل بينهم الأنساب والأرحام ليتعاونوا على العبودية والتقوى التي يؤمرون بها، قال الله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى".
5- واتقوا الله، الله وكفى
" واتقوا الله الذي تساءلون به "، تأكيد على التقوى، وهذه المرة تقوى الله، لماذا؟
لأن الله أعظم من الرب، إذ الرب يعرف بالنعمة، فتجب تقواه شكرا لنعمه وأداء لحقه،
بينما يعرف الله بصفاته وأسمائه، فتحق له التقوى من أجل ذلك، نتقيه لأنه الله وكفى،
الله الذي نتعاهد عليه، ونجتمع عليه، ونتفرق عليه، سبحانه عز وجل.
6- تقوى الأرحام، كيف؟
" والأرحام "، الرحمة من صفات الله تعالى الرحمن الرحيم، الذي أوجب تقواه على من
استشعر عظم هذه الصفة وسعتها، ومن الرحمن اشتق اسم الرحم، والآية تعطف تقوى
الأرحام على تقوى الله الرحيم الرحمن، فما حقيقة هذا الأمر؟
إن من رحمته تعالى بخلقه أن خلق لهم وشيجة فطرية أخرى تجمع شتات قلوبهم
وأجسادهم، واشتق لها اسما من اسمه، وعظم قدرها بوسام: (فمن وصلها وصلته)
جزء من حديث رواه
أبو داود والترمذي، وتهدد من قطعها بأن يقطعه عن رحمته (ومن قطعها قطعته) نفس
الحديث، ومن لم يكن الله له فأنى يولي وجهه؟
إنها دعوة عامة للناس عامة، للذين يتساءلون باسم الله الرحمن، ويتعاهدون عليه، كما يتعاهدون ويتساءلون بالأرحام التي تجمعهم، دعوة لهم أن يؤدوا حق هذه الرحم،
كيلا يؤتوا من قبلها.
وللرحم معنى أشمل من العلاقة الخاصة التي تجمعنا بذوي القربى وتوجب علينا حق الإحسان إليهم، إنه معنى واسع مطلق، يمتد ليشمل العلاقة الإنسانية الآدمية، التي ينضوي تحت لوائها جميع البشر، وينص القرآن على برها، كما نص على بر الرحم الأولى في مثل قول الله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحب المقسطين" الممتحنة الآية8.
والمقسط هو الذي يعرف حق الرحم البشرية ويؤديه، أسمى حق وأوله: الجهاد الدائم لكشف الظلم عن العباد، وفك رقابهم حتى يسمعوا كلام الله تعالى. المقسط هو الذي يحسن إلى الناس
في معاشهم بقصد أن يدعوهم إلى صلاح معادهم، وهو الذي يرددها جلية واضحة:
"جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد".
7- علينا رقيب
" إن الله كان عليكم رقيبا "، فالله سبحانه وتعالى يراقب أعمالنا وأحوالنا، ويعلم مدى
تقوانا له وبرنا بالأرحام، يخبرنا بذلك لنستحضر دائما أنه عز وجل يحصي أعمالنا ليوم
نرجع فيه إليه فيحاسبنا عليها، ليكون طلب محبته ورضاه مصدر طاعتنا وبرنا، يذكرنا
الله تعالى حتى لا تنسينا الدنيا يوم المعاد، يوم لقاء رب العباد، خالق الرجال والنساء.