بقـرة اليتامى
في كلبيت، في كل قرية ومدينة يتذكر الكبار والصغار حكاية الأوائل الذين صنعوا الحياةبأفراحها وأتراحها،، وبين مئات الحكايات التي ترددها الجدات... من ذاكرة لأخرى ومنحكاية لحكاية نستلطف أعذب القصص وأغربها عبر سالف الأزمنة، تتداولها الألسن لتكوّنجلسة من جلسات التسلية والإثارة،، نقضي بها الساعات الطوال من الليل قرب الجدة.
"زينب" التي ما فتئت ذاكرتها المشحونة بصور حوادث مؤلمة ومفرحةيستعيد تذكرها زفير الزمن، يبتهج لها الصبية المجتمعون حولها في صبر وشوق وهي تسردعليهم هذه الحكاية قائلة:
-آهيا أبنائي سأقص عليكم حكاية "بقرة اليتامى" القصة التي أبكت الأجيال، قصة الإنسانالذي لعبت به الأقدار في سخرية دامعة،،
يردونعليها: -نعم،، نعم يا جدتي هيا بسرعة،،
الجدة:
تغمرالسعادة قلب الرجل الساكن الكوخ،، تحت زقزقة العصافير وزرقة السماء، ومع اخضرارالأرض تداعبه بسمات زوجته الحنون وهي ترعى طفليها "ظريف ومرجانة" مع بقرتهماالصفراء، ذاك رزقهما في الدنيا ينتفعان بحليبها... يجلسان بقربها، فتلامس بلسانهاوجه "ظريف"، هذه سعادتهما تتضاعف، وقهقهاتهما تتعالى والفرح يحيط عالمهما وهمايترعرعان في حضن أبويهما الكريمين،، وتمر الأيام والليالي والقدر يكن للعائلةالصغيرة الهادئة أموراً أخرى،،
فجأةتخور قوى الأم الرؤوم فتصبح طريحة الفراش،، تمزقها سكاكين الوجع، تزيدها حرقة دموعطفليها وحسرة زوجها،، كانت الفتاة تسهر بجانب والدتها تخفف حرارة جسمها، وأضعه قطعةمن القماش مبللة بالماء البارد على جبينها.. وما عسى "ظريف" أن يفعل سوى ذرف دموعحارقة شفقة على أمه التي قد يفقدها إلى الأبد!! وتزداد الحمى ويشتد مرضها،، فتسلمروحها إلى بارئها تاركة وراءها طفلين للوحدة والاغتراب،، لليتم والأحزان،،،،،
** *
الحزندخل البيت دون استئذان،، شقاء وآلام مرة مرارة العلقم ودموع من فيضها تجريكالوديان... ما أقساك يا زمن الفراق، صحيح أن فراق الأحبة غربة،، وهكذا صار الطفلانكالعصفورين الصغيرين يبحثان عن أمهما في قلب أبيهما،، وأضحى الكوخ حزيناً مكفهراً،الظلام الدّامس يسكنه في رابعة النهار كما سكن أفئدة العائلة الجريحة كأنها طائرمهيض الجناح، الحزن الأسود يخيم على الجميع، حتى البقرة أحست بفقدان صاحبتها فندرالحليب في ضرعها...
** *
مرتالسنون والعائلة بائسة تكاد رياح الشقاء تعصف بها.
رغبالأب عن الزواج بامرأة أخرى لأن زوجته الأولى لازالت تحتل قلبه وتفكيره لكن حرصهعلى ولديه، ورعايتهما وتدبير شؤون البيت جعله يفكر في الأمر مرة ثانية.
وتزوجالشيخ من امرأة ظن الخير في ناصيتها لكنها كانت تخفي تحت جمالها قلباً أسود أقسى منالحجر، قلباً لا يرحم ولا يلين.
أنجبالشيخ من زوجته بنتا سمّاها (عسلوجة) فتضاعف حقد زوجة الأب على الطفلين (ظريفومرجانة) اللذين كان يقضيان وقتيهما في النهار مهملين جائعين، وعند المبيت يفترشانالثرى أو التبن قرب بقرتهما، يستمدان العطف والحنان من نظراتها كما يستمدان الغذاءمن حليبها الدسم فنما جسماهما وتوردت خدودهما صحة وعافية وكان ذلك العطاء الحيوانيتعويضاً للحرمان الإنساني.. احتارت زوجة الأب في أمر (ظريف ومرجانة)، رغم حرمانهاوإهمالها لهما، يزدادان نمواً وجمالاً، وفي المقابل يعتري (عسلوجة) شحوب وهزال رغمعنايتها الفائقة بها غذاء ولباساً ودلالاً. فسهرت لذلك الليالي تفكر باحثة عن جوابشاف كاف للأسئلة المتهاطلة عليها كسيل الأمطار، لكنها لم تجد حلاً للغز المفارقةالتي تراها تزداد يومياً.
وفيأحد الأيام أوصت بنتها (عسلوجة) قائلة:
-رافقيهما إلى المرعى وارصدي حركاتهما لتخبريني من أي مصدريسترزقان، من أين يأكلان، لم تكن عسلوجة أقل من أمها حقداً وغيرة تجاه أخويها (ظريفومرجانة) مما جعل نار الحسد تشتعل في قلبها الصغير فيصعد دخان اللهب إلى وجههاليجعله أسود وهكذا ورثت (عسلوجة) من أمها صفة قبيحة تميت صاحبها ببطء.
استجابت عسلوجة لطلب أمها بلهفة وراحت ترقب الطفلين عن بُعد...!!
كانتدهشتها كبيرة وهي ترى البقرة في منتصف النهار تقترب منهما فيجثوان على ركبتيهما ثميمسكان بضرعها لينهلا منه الحليب الصافي، يرضعان مثل الصبيين التوأمين كأنهمايمتصان ثدي أمهما،، يا له من مشهد رباني،،، ياله من موقف غريب عجيب،، حادث رائع،يدعو إلى التفكير في أسرار هذه الحياة وسخرية الأقدار ببني الإنسان.
اندهشت البنت (عسلوجة) لما رأت ذلك، لكنها سرعان ما حاولتتقليدهما،، تقدمت نحو البقرة وقبل أن تضع رأسها قرب الضرع صَكَّتْها البقرة بحافرهافأصابت عينها اليمنى، وكان ذلك جزاء التجسس على الأبرياء.. وعادت البنت (عسلوجة) إلى أمها مغمضة العين باكية الأخرى فأخبرت والدتها بما حدث لها وما شاهدت طولالنهار.
اغتاظت الزوجة لما رأت وسمعت واشتد غضبها فعاقبت الطفلين (ظريفومرجانة) عقاباً شديداً وقررت التخلص من البقرة (أم اليتامى).
ها قدشرعت تفكر في حيلة تنصب شراكها لتنفيذ قرارها.
بدأتتوحي بذلك إلى زوجها تمهيداً لإبلاغه القرار، وبعد ذلك بأيام طلبت منه ذلك جهاراًنهاراً، قائلة:
-أيهاالزوج العزيز، يا شيخي الكريم، نحن لسنا في حاجة إلى البقرة.
ردَّعليها في دهشة وغضب: -ماذا تقولين أيتها الحمقاء؟ أجننت؟ أنسيت حليبها ولبنهاوسمنها؟!
قالتوهي تلح في جرأة وقحة:
-بعهاواشتر لنا حماراً نركبه فيريحنا، إني كرهتها، إنها متعبة، لا أريد رؤيتها بعداليوم.. وباتا ليلتهما متخاصمين، يتجرعان مرارة الخلاف...
وجاءتالأيام ومع إصرار الزوجة على رأيها تفتت موقف الشيخ الصلب وانصاع لرغبة "زوجته".....
فيالسوق الأسبوعي حيث ينعقد مؤتمر التجار والفلاحين ويلتقي الغني بالفقير والفلاحبالأمير والأمين بالغرّير، كان الناس يحملون السلل الحافلة بمختلف أنواع الخضروالفواكه الشهية التي منّت بها عليهم الأرض.... فواكه لذيذة أنتجتها أيدي خشنةمتجعدة، كما عرضت في السوق أواني طينية أبدعتها أنامل النساء القرويات في أشكالمنقوشة ومظاهر منحوتة وصور مزركشة قشبية أخذت من أمنا الأرض زخرفتها.
تقولالجدة "زينب" ضاحكة:
-"لوكان ما لساني لحلاح ما خذيت المداح" هذا حال الدنيا يا أكبادي، وهذه طبائع البشركمعادن الأرض، فيها الذهب والفضة وفيها النحاس والرصاص، توجد نساء عطوفات كالأمهاتأو أكثر، لا تخافوا يا صغاري، يبتسم الأطفال وتواصل الجدة سرد الحكاية، وهي تتثاءبواضعة راحة كفها على فمها من حين لآخر:
منمطلع الفجر لبس الزوج عباءته البيضاء ورمى برنوسه البني الطويل على كتفه ثم اتجهنحو الإسطبل ماسكاً الحبل بيديه المرتعشتين ليضعه حول قرني بقرة اليتامى...
كانتالبقرة في طريقها إلى السوق الأسبوعي تبكي بلا دموع وكأنها عرفت مصيرها، بل أنهاكانت تبدو حزينة لفراق الطفلين الأبدي.
عندماابتسم الصبح حزيناً ذهبا إلى مكانها كالعادة لشرب حليب الصباح فوجدا المكانخالياً..
لميجدا الكنز الذي تركته لهما أمهما فشعرا بموت أمهما مرة ثانية، وكأنها توفيت مرتين. فبكيا كثيراً...
كانالشيخ في طريقه يردد في نفسه كلمات يقصد بها زوجته:
-هيتقول وأنا أقول... هي تقول وأنا أقول حتى غلبتني بالقول،،، لقد صدق من قال لكل داءدواء يستطب به إلاّ الحماقة أعيت من يداويها يا ليتني تزوجت بالضاوية بنت المدّاحالمرأة الكريمة العطوفة.
وفيباب السوق وجد الشيخ جزاراً يسوم الناس أبقارهم، فباعه البقرة بأدنى ثمن وعاد إلىبيته حزيناً يدعو الله اللطف والرحمة بصغيريه اللذين وجدهما مكان البقرة في حدادينظران نحوه نظرات غريبة ممزوجة بالعتاب والاستفهام...
استلقى الشيخ على فراشه ليلاً وبعد أرق وسهاد حرما على جفونه النعاساستسلم للنوم فرأى في الحلم زوجته الأولى أم الطفلين تزوره دامعة العينين وهي تقولله: سامحك الله.... لقد ضيعت الأمانة.
ثمتطلب منه الذهاب إلى الجزار لاسترجاع ضرع البقرة وقرنيها ووضعهم على قبرها في أقربوقت لاحق.
قامالشيخ من نومه مفزوعاً ولبس عباءته في منتصف الليل، ثم غادر بيته صامتاً وفي سرعةعجيبة هرول نحو دار الجزار، وأكمل الهزيع الأخير أمام باب الجزار ينتظر خروجه.
استيقظ الجزار على نباح الكلب فوجد الشيخ على عتبة البيت يرتعد منالبرد، استغرب لحاله واستفسره عن رغبته، تعلق الشيخ بملابس الجزار يقبل يديهملتمساً منه إعطاءه ضرع البقرة وقرنيها.
كانالطلب غريباً كلن قلب الجزار رغم قسوته رقَّ لحال الشيخ واستجاب لرغبته وقدّم له ماأراد في تلك الصبيحة....
بيديهحمل الشيخ ضرع البقرة والحليب يسيل منه ممزوجاً بالدم، ووضع قرنيها داخل قلمونةبرنوسه، وسار في اتجاه المقبرة التي تنام فيها زوجته الأولى، عندما وصل إلى قبرهاحياها في حسرة وأسف، ثم وضع الضرع على قبرها قرب حجر الشاهد، وغرس قرني البقرةبالقرب من القبر ثم انصرف إلى بيته مسروراً بإرضاء زوجتيه معاً.
** *
يشتدالزمن على الطفلين بمرارته المتوالية مع الأيام، لقد حزنا حزناً عميقاً لغياببقرتهما، وها هو الجوع يضنيهما وزوجة أبيهما ترفض الاستجابة لتوسلاتهما المنبعثة منمعدتيهما الخاويتين،، شحب لون وجهيهما وهزل جسماهما حتى صارا لا يُعرفان عندالناس...
فييوم من الأيام اشتد شوقهما لرؤية أمهما، فذهبا خفية إلى مقبرة القرية يزوران قبرحبيبتهما ويشكوان لها حالهما،، وصلا إلى القبر جائعين يلهثان من العطش فوجدا عليهضرع البقرة يفيض حليباً دافئاً، كان ينتظرهما كالعادة وبالقرب منه نخلتين باسقتينكثيرتا العراجين التمرية، تأتي أكلها كلَّ حين.
احتضنا قبر أمهما فرحين مسرورين بلقائها وكأنهما يسمعان صوتها ينبعثمن تحت التراب ثم بكيا حتى تبلل تراب قبرها حينما تذكرا حضنها الدافئ الحنون.
شرباالحليب وأكلا التمر حتى شبعا وارتويا ثم تحولا بنظراتهما يتطلعان إلى السماء وإلىالنخلتين في صورتهما الشبيهتين بقرني البقرة، وبقي الطفلان اليتيمان طوال النهاريناجيان أمهما في مظهر إنساني لا مثيل له.
قدمالطفلان إلى المكان مرة ثانية وثالثة، يرتادانه وقت الحاجة حتى عادت النضرة إلىوجهيهما والسحر إلى محييهما والعافية لجسميهما فعاود زوجة أبيهما الحسد والضغينة،وطلبت من ابنتها (عسلوجة) إعادة الكرة مرّة ثانية، قبلت (عسلوجة) المهمة بغبطةوكأنها خلقت لفعل التجسس.
رافقتعسلوجة شقيقيها المغضوب عليهما إلى حيث يسيران، كانا يتعمدان التمويه في سيرهما بينالمزارع والحقول يريدان التخلص من أسئلتها التحقيقية لكنها كانت مصممة على بغيتها. ويمر النهار عسيراً على الطفلين رغم اللعب والمرح بعض الأحيان، ينتظران عودة (عسلوجة) إلى البيت وقد أخذ منهما العياء والجوع،،، طلباً منها الرجوع فلم تقتنعحذراها من مهالك الطريق الذي يسلكانه فلم تأبه لكلامهما... حاولا العودة إلى البيتلكن الشوق والجوع والظمأ أرغموهما على الاتجاه نحو المقبرة...
كانالوقت أصيلاً وخلاله قهرهما الجوع فلم يستطيعا صبراً وتوجها نحو الضرع والنخلتينيهزان جذعيهما فيتساقط الحب رطباً شهياً. وانكشف السر.... تقدمت (عسلوجة) من الضرعالمدرار وتجرعت خلسة قليلاً من الحليب وأبقت جرعة في فمها، كما وضعت تحت شفتهاالسفلى شق تمرة ثم عادت نحو البيت مسرعة لتجد أمها في انتظار التقرير الكامل المفصلعن المهمة الموكلة لها.
باتتزوجة الأب تفكر في الأمر أرهقها التفكير ولم تجد للموضوع حيلة ومع الصباح المشرق فيربوع القرية سمعت منادياً ينادي لبيع ما لديه من كسوة وعقاقير،، إنه الدلاّل... هاقد جاء في موعده... هرعت إلى بوابة الكوخ تسأله: ما في حوزتك لقطع النخلة؟ أجابوالعرق يتصبب من جبينه:
-القطران في عروق النخل، يقتل الجذور فتصبح سواكا وبخوراً.
أطربها جواب الدلاّل فاشترت منه ما يكفيها للفتك بالنخلتين، واتجهتصوب المقبرة لاهثة، تحمل القطران في يدها والمكر في قلبها، وما إن وصلت إلىالنخلتين حتى بحثت عن جذورهما ودست فيهما القطران، ثم أخذت ضرع البقرة ورمته خارجالمقبرة للكلاب التي التهمته في الحين.
بعدعودتها إلى البيت مكثت صامتة صمت المذنبين، لا يرى الرائي في عينيها الغائرتين غيرعلامات المكر والدهاء، أقبل الشيخ من عمله متعباً وقد ضعف بصره وابيض شعره، واحدودبظهره، وقبل أن يستريح وقفت في وجهه صارخة تتصنع الغضب:
-هياأبعدهما عني، إني كرهتهما؟
يتساءل العجوز في حيرة: -من تقصدين؟
قالت: -هما، اللذان تسببا في تعوير عين ابنتي عسلوجة.
** *
معالصباح الباكر يجهز الشيخ ابنه ظريف وابنته مرجانة للرحيل،،، قصدوا الغابة ترافقهمالدموع، وفي نهاية الدرب الزراعي الملتوي قرب سفح الجبل ودّعهما الشيخ بشهقات حزينةوهو يضع في أيديهما قطعاً من الخبز وكيساً مملوء بألبستهم وفراشهم... وعاد إلىالبيت كئيباً،، عاد وحده يبكي حرقة الوداع الأبدي..
ويسيرالطفلان قاطعين الوهاد والجبال والأدغال، خارجين بلاداً داخلين أخرى، هائمين علىوجهيهما لا يعرفان لرحلتهما اتجاهاً معيناً أو نهاية محدودة.. كان التعب قد أخذموضعه منهما فجف ريقهما عطشاً والتوت أمعاؤهما جوعاً وكادا يموتان عياءً وظمأ لولاإشرافهما على نهر جار يسمى وادي السحر، بدا لهما من بعيد أملُ يائس وبسمة قائظومائدة نزلت من السماء.. وعندما وصلا لاحظت مرجانة سائلاً سحرياً يختلط بالماء،فتذكرت قصة الوادي السحري الذي يغسل الأبدان من الدنس ويحول شاربي مائه إلىغزلان!!
أسرعأخوها ظريف نحو النهر وانكب على الماء يريد إطفاء نار العطش الملتهبة في حلقه لكنأخته منعته من الشرب وبصعوبة أبعدته عن الماء وواصلا طريقهما.. توقف الطفل ظريف عنالمشي وأخبر أخته بضياع قلادته عند الوادي، قلادة الذكرى والتذكار، المهداة له منأمه العزيزة... سمحت له أخته بالعودة للبحث عن قلادته وأوصته بالامتناع عن الشرب.
ورجعالطفل إلى النهر للبحث عن ضالته، لكن انسياب الماء بين الحصى زلالاً صافياً أفقدهالصبر فلم يتمالك نفسه وانهال على الماء يعبه عباً، وفي لحظة، في رمشة عين، صارالعجب! لقد تحول الطفل ظريف إلى مخلوق آخر.. يشبه الغزال! اندهشت لذلك أخته وبكتبكاءً مراً ثم حزنت لذلك حزناً عميقاً، واشتدت حيرتها على أخيها.. ها هي "مرجانة" جالسة تحت الشجرة تمشط شعرها والطفل الغزال أمامها يرتشف جرعات الماء لا يدري ولايدرك حاله.. انسلت من شعرها الذهبي واحدة،، كانت طويلة في امتداد سالفها الطويل،سقطت الشعرة في مجرى النهر فجرفها التيار وسرى يتلاعب بها مسافات بعيدة، حتى توقفتفجأة بين أنامل يد بشرية،، إنها يد سلطان البلاد..
** *
منذحين كان السلطان يتجول في رحلة صيد يصحبه الجند وسط الأدغال والأحراش وعند الظهيرةأراد الاستحمام بماء النهر الدافئ استعداداً لتناول وجبة الغذاء الدسمة، جلس علىضفة النهر ووضع يده في الماء يعاكس التيار الجاري مستلذاً بانسياب الماء بين أصابعهكسريان النسيم العليل بين السنابل، عندما حمل السلطان الشعرة في كفه كانت أشعةالشمس تنعكس عليها فتماوجت ألوانها في منظر سحري بديع، تفحص وتمحص الشعرة الذهبيةكثيراً وبفراسة الأذكياء عرف أن الشعرة لفتاة رائعة الجمال كريمة النسب عاليةالخلق.
وقفالملك صامتاً ثم اعتلى صهوة جواده الأصيل، فاجتمعت حاشيته حوله تنتظر الأوامر،،،قدّم لهم الشعرة قائلاً:
-جاءتمع الماء،،، أريد رؤية صاحبتها في أقرب وقت.
وبعدهنيهة من الزمن كان الجند يسلكون ضفتي النهر قاصدين منابع الماء للوصول إلى صاحبةالشعرة الذهبية،،، وجدوا في طريقهم نساء كثيرات يغسلن ثيابهن وينشرنها على الشجيراتالقريبة من النهر كما شاهدوا فتيات عذارى يستحممن بماء النهر وقد أفزعهن قدوم الجندبغتة من حيث لا يدرين. وظل الجنود يسعون، يقارنون الشعرة الذهبية بشعر كل أنثىيصادفونها في طريقهم حتى اشتغل الناس بالأمر واحتارت النساء لذلك وتوقفت خطواتالجند على رأس النهر، حيث منابعه الأولى ولم يجدوا لصاحبة الشعرة الذهبية سبيلاًولا أثراً، فعادوا إلى السلطان خائبين بعد أسبوع من البحث الدقيق، والاستطلاعالواسع.
اغتمّالسلطان لمّا علم بالأمر، واستسلم لتفكير طويل، يسائل نفسه ويعاتب تاجه ووزراءه عنعجز سلطانه في الوصول إلى شيء بسيط في مملكته وهو الآمر النّاهي...
ومرتالأيام فانشغل بأمور الرعية محاولاً تسلية نفسه، لنسيان صاحبة الشعرة الذهبيةالغريبة،،، لكنه لم ينس إخفاء الشعرة في صندوقه الخاص مع لوازمه السرية.....
** *
ها هيالفتاة مرجانة تمشي وأخوها الطفل الغزال ظريف يتبعها في مشهد غريب حقاً،،، وفي غمرةحيرتها الكبرى شاهدت كوخاً قديماً يتوسط الأشجار فأسرعت بها قدماها نحوه، إنه لعجوزطيبة تعيش من الأعشاب والعقاقير التي تحضرها إلى الدّلال كل صباح، عندما يأتي وعلىكتفه "الشوال" وهو ينادي:
-غذاؤك دواؤك، هات ما عندك أعطيك ما عندي،،، البيع لا والمبادلاتنعم.
فتقدمله العجوز الحشائش والعقاقير النافعة للعلاج مستبدلة إياها بالقمح والشعير والزيت.
رحبتبالطفلة التي جاءت تريد الخبز والماء لها ولأخيها.
تستغرب العجوز ثم تسأل:
-أينأخوك؟
وقصّتعليها مرجانة الحكاية من البداية إلى النهاية.
أسرعتالعجوز إلى مربط الجديان وأطلقت الغزال من ربقة القيد، بعد أن عرفت قصته، فجاءمسرعاً ليقف قرب أخته، وقدمت لهما العجوز الخبز والعسل والتفاح ثم قالت لهما:
-لاتيأسا من رحمة الله،، أنا أمكما الآن... ثم نظرت إلى السماء وهي تقول:
-شكراً أيتها العناية الإلهية لقد حققت حلمي،،، حلمي الدفين منذسنين.
عمّالخير البلدة بحلولهما على بيت العجوز فنزل الغيث وتفجرت الينابيع المائية واخضرتالأرض الفلاحية، وغمرت خيمتها الأرزاق.
ويأتيالدلاّل يأخذ طبق الأعشاب فيجد بداخله ذهباً،،، استمر الحال شهوراً والدلاّل فرحومتعجب، لكن الاستغراب كان يملأ خاطره ويشغل باله،، فقرر بعد سنين اطلاع السلطانعلى هذا السر العجيب... الأعشاب تصير ذهباً والصيف يصبح ربيعاً؟؟؟........
** *
زوجةالأب وابنتها عسلوجة يقرران الرحيل والشيخ يمانع وقد ظنّ أن يد الأقدار تعيد لهطفليه، حاول الامتناع لكن إصرار زوجته وتهديدها له بتظليمه لدى الحاكم زوراوالوشاية بأنه لا يدفع الضريبة السنوية على أفراد عائلته، أخضعاه للأمر الواقع.... وسافرا الثلاثة إلى غير رجعة تاركين البيت أطلالاً، جدراناً طينية تتلاعب الرياحبسقفها النباتي.
أصبحالدلاّل من الأغنياء لكنه لم ينقطع عن الدلالة، ها هو يدخل قصر السلطان الواسعةأرجاؤه ويطلب من الحرس السماح له بمقابلة السلطان، بعد محاولات كان له ما أراد،يطأطئ رأسه، محيياً السلطان، بقوله:
-العظمة والجلالة لمولانا السلطان (يشير عليه السلطان بيده اليمنىقائلاً):
-هاتما عندك أيها الرجل، إن كنت مظلوماً فأنا منصفك وإن كنت مسلوب الحق أنا راده لك... انشر ما في صدرك...
الدلاّل مبتسماً:
-عفوكأيها السلطان، لا هذا ولا ذاك، إن سبب حضوري، واقعة أذهلتني وأطلب من مولاي السلطانالسماح بسرد قصة العشب الذهبي.
(يشجعه السلطان بإيحاء من ملامحه، فيطلق الدلاّل العنان للسانه يصولويجول واصفاً الزمان والمكان بأوصاف شتى أثارت فضول السلطان وحركت فيه سلطة القرارفأمر أحد حجابه بإحضار العجوز ومن معها قبل غروب شمس ذلك اليوم).
وغابتالشمس في الأفق وفي القصر أشرقت شمس أخرى إنها الفتاة مرجانة رفقة العجوز وأخيهاالغزال أدخلهم حاجب القصر، فبهت السلطان لجمالها الباهر، كان سحرها يسري في النفوسكالموج في امتداده، جاء السلطان في الحين بالشعرة الذهبية وقارنها بشعر الفتاة فإذابها تشبهه..
-يالها من صدفة عجيبة!!
قالهاالسلطان وهو يهش لوجودهم بالقصر... ثم أكرم حضورهم وطلب منهم الإقامة في جناحالضيافة ثلاثة شهور لعلاج الغزال.
وجاءيوم الصبح الثاني ومعه وفود الأطباء والعلماء والعارفين بعلوم الدين، كانوا يصلونزرفات ووحدانا تلبية للنداء العاجل الذي أصدره السلطان إلى عمّاله في الأقاليم، ومعالأصيل كانت ساحة القصر تعج بذوي الأفهام والعقول النيرة والعارفين بسداد الرأي فيالطب والحكمة، ها هم ينتظرون ظهور السلطان، أعناقهم تشرئب إلى الشرفة المهيأة لهلمعرفة سر جمعهم.
وبعدزمن قصير أطل السلطان وحياهم بإشارة من يده ثم أمر حاجبه إحضار الغزال فأحضره فيالحين، توجه السلطان بخطاب مطول للحاضرين تحدث فيه عن الحياة وأسرارها والخالقوقدرته، ثم طلب من الجميع البحث عن علاج للطفل الغزال كي يعود لصفته البشرية خلقةوخلقاً، لم يخف الحاضرون اندهاشهم وراحوا يسبحون ويحوقلون.. تناظروا فيما بينهموشرعوا في التفكير والبحث وإجراء التجارب..
خلالفترة العلاج والضيافة أعجب السلطان بالفتاة مرجانة سلوكاً وجمالاً وتعلق قلبه بها،فعرض عليها الزواج... وافقت الفتاة مرجانة لكن مهرها كان غالياً، إذ طلبت منالسلطان الوعد بعلاج أخيها حتى الشفاء التام، وقبل السلطان شرطها،، فأقاما عرساًبهيجاً رقص فيه الغزال كثيراً وعاشا أياماً سعيدة وعيشاً رغيداً تملؤه المودةوالرحمة ويزينه التفاهم...
** *
منمرافق القصر الترفيهية المتحف الحيواني الذي يجمع في أروقته أصنافاً عديدة منالحيوانات الأليفة والمتوحشة، زاره السلطان رفقة زوجته فسرّت بما رأت وقالت فينفسها عندما مرت بجناح الغزلان:
-ربمايوجد في هذا السجن الحيواني من كان إنساناً وشرب الماء السحري فتحول إلى غزال،وصارت تتردد على هذا الجناح كل أسبوع تبحث عن سرّ ما.
** *
وفييوم من الأيام اضطر السلطان للسفر، فأخبر زوجته بعزمه ثم وضع في أصبع من يدهااليسرى خاتم السلطنة، وأوصاها باستعماله عند الضرورة.. ودّعها ومشى فشيعته بنظراتينبعث منها الحب والاعتزاز، ثم عادت إلى جناحها كي تستريح قليلاً ولتختلي بنفسهافتنظر إلى بطنها المنتفخ، مبهورة بالحمل، فخورة متشوقة للمولود الأول، الذي ستأتيبه هدية إلى السلطان بعد عودته..
فيغياب السلطان عن قصره جاء فقير في ثياب بالية يطلب صدقة، كان الوقت أصيلاً، إنهالزمن الذي تخرج السلطانة إلى شرفتها تتأمل الكون وتودع الشمس وهي تلبس عباءتهاالصفراء مستعدة للنوم خلف الأفق، وقع بصرها على السائل يرفع يده نحوها، فاقشعرجسمها وأحست بشعور غريب يغمرها، طلبت من الحراس إدخاله إلى الساحة... نزلت منالطابق العلوي مسرعة واقتربتَ منه فتعرفت عليه... نعم هو أبوها العجوز.. عانقتهفاحتضنها وبكيا، أطعمته حتى شبع وسقته حتى ارتوى وألبسته أزهى الثياب حتى دفئ وشعربالراحة والطمأنينة، وحدثته كثيراً عن رحلة العذاب والمتاعب فقال لها بصوت حنون:
-إندوام الحال من المحال، وإن الله مع الصابرين.
وعندما أراد مغادرة القصر وضعت مرجانة في يده كيس فطائر محشوةباللحم ثم التمست منه عدم فتح الكيس قبل الوصول إلى البيت مع حفظ سر وجودها عنزوجته وابنته.
وعادالشيخ إلى زوجته وابنته فرحاً مسروراً وحائراً في أمر ابنه الغزال ظريف... فتحتالزوجة وابنتها الكيس فإذا الذهب يتدفق من بين الفطائر، قطع تتساقط فتحدث رنيناًوتلمع فيتحول البريق إلى توهج يثير النفوس الطامعة.
طلبتالمرأة من زوجها الذهاب إلى السلطانة لشكرها رغبة منها في المزيد من الذهب، ولميمانع الشيخ لأنه تعود الطاعة والانصياع وعلم أن مقاومته لها ستبوء بالفشل لامحالة.. وفي اليوم الموالي ذهبا ترافقهما ابنتهما (عسلوجة)، وكم كانت المفاجأةكبيرة للزوجة وابنتها عندما تعرفا على السلطانة التي أكرمت ضيافتهم جميعاً، ندماوطلبا منها على العفو وكان لهما ذلك.
وبعدضيافة ثلاثة أيام قرر الشيخ العجوز أخذ زوجته وابنته (عسلوجة)، ومغادرة القصر خشيةوقوع ابنته السلطانة ضحية مكر جديد تدبره لها زوجته... وعندما علمت السلطانة مرجانةبقراره وافقته لكنها طلبت منه السماح لعسلوجة بالبقاء معها في القصر أياماً.. فكانلها ما أرادت..
** *
ذاتضحى يوم جلست السلطانة مرجانة في حديقة القصر على حافة البئر تتأمل هندسته الرائعةوبجانبها أختها عسلوجة، ثم شرعت مرجانة في تسريح الشعر الذهبي، المتماوج الألوان،وأثناء ذلك استيقظ في قلب عسلوجة هاجس المكر القديم واشتعلت نار الغيرة في فؤادهافأظلمت الدنيا أمام عينيها، ولم تشعر بالراحة إلاّ بعد أن دفعت بالسلطانة إلى أعماقالبئر ثم عادت إلى جناح الخدم بالقصر هادئة النفس كأنها لم تفعل شيئاً، بل طلبتمنهم سبع قدور لتقديم الغزال وجبة شهية توضع على مائدة السلطان العائد من سفرهالبارحة فقط.
لكنالغزال عندما رأى ما رأى من قدور نطق فزعاً وأسرع نحو جناح السلطان فأيقظه من نومهوهو يقول:
-دعوني... دعوني... أودع أختي، أذهب إليها في البئر، ثم افعلوا ماشئتم!! وأغمي عليه لعدة ساعات.
(ياخويا، يا ولد أما وبابا سبع قدور تتغالى سبع مواس تتسانى هكذا كانت السلطانة ترثيأخاها الغزال من داخل البئر باكية شاكية في حزن، بعدما سمعت الحرس يتحدثون في أمرذبح الغزال دون أن ينتبهوا لها)، حاولت مناداتهم لكن حنجرتها لم تقو على التصويتلهول ما وقع لها عند رميها في البئر... حتى إنها وضعت حملها، توأمين داخل البئر،،،وبقدر فرحها الشديد بهما كانت خائفة عليهما من أذى الماكرين...
أعلنالسلطان حالة الطوارئ في البلاد وأخبر الجيش بالكارثة فهلع كل من سمع الخبر، توجهالجميع للبحث عن زوجة السلطان في آبار المدينة، بينما ذهب بنفسه إلى بئر عتيقةمحفوفة بالحشائش في إحدى حدائق القصر، وقف ينظر داخلها، وصل مسمعه صوت الألمالمنبعث من أعماق البئر ممزوجاً بأنين الحزن وسمع صوت وليد يبكي صباه، لم يتمالكالسلطان نفسه فحاول الارتماء في البئر لإنقاذ زوجته المشرفة على الهلاك لكن حراسهكانوا أسبق منه إلى دخول البئر المرعبة وبعد حين من الجهد والمعاناة خرج الجميع منالبئر في حالة يرثى لها.
كانالمشهد مؤثراً، والموقف عصيباً وكانت المفاجأة كبيرة عند رؤية الصبيين يتعلقانبثديي أمهما، احتضن السلطان زوجته النفساء مع الصبيين، احتضنهم جميعاً ثم حملالطفلين الجميلين بفرح كبير وأعلن إنهاء حالة الطوارئ وإقامة الاحتفالاتفي كلالأقاليم تكريماً لزوجته ولبنيه... وكان عقاب الفتاة عسلوجة على فعلتها الشنعاءالنفي الدائم خارج السلطنة، بينما اختار والد السلطانة مرجانة البقاء قرب حفيديهالصغيرين يرعاهما ويتأمل نموهما.
تزامنت الاحتفالات بوضع العلماء والأطباء اللمسات الأخيرة لبحوثهموتجاربهم حول إبطال مفعول الماء المسحور.
وفيغمرة البهجة والسرور بنجاة السلطانة من الموت المحقق وبازدياد الأميرين الصغيرينأعلن العلماء والأطباء والحكمة عن اكتشاف دواء جديد يعيد للشاب ظريف الغزال هيئتهالبشرية الأولى التي كان عليها قبل أن يشرب من وادي السحر، فأطرب هذا الخبر العائلةالحاكمة وكل من كان في البلاد، وقدّم العقار إلى الغزال ظريف في الحين وبمجردتناوله مع جرعة من زيت الزيتون بدأت صفاته الجسمية تتغير والعلماء يشاهدون.
كانواجميعاً في المخبر الملكي في صمت رهيب كأن الطير على رؤوسهم وما هي إلاّ دقائق حتىعاد الشاب إلى حالته الطبيعية. إنسان جميل، شاب في مقتبل العمر،، بهي الطلعة وسيمالوجه،،، فازدادت الفرحة في القصر وتعانق الجميع، السلطان مع السلطانة والشيخ وابنهظريف ومعهم الصبيان الصغيران...
تنفستالجدة (زينب) الصعداء وهي تشرف على نهاية الحكاية الأسطورة، ثم قالت:
-وهكذا يا أحفادي الأعزاء،، عاش الجميع في سعادة وهناء ردحاً طويلاًمن الدهر، إلى أن حضر "هادم اللذات وميتم البنين والبنات، مخرب القصور ومعمرالقبور" فمات من مات وعاش من عاش وسبحان الحي الذي لا يموت)...
ثمتفقدت الصغار فوجدتهم نائمين، فنامت بالقرب منهم بعد أن قالت:
-هكذاينامون كلّ ليلة وفي الليلة المقبلة يطالبونني بإعادة الحكاية، ثم استدركت قائلة:
-إنهاالطفولة.... يحكمها قانون عجيب!!