القصة الأولى : الحرية
سأل المعلم تلامذته، و كان المفتش يلاحظ الأداء من على آخر طاولة، ماذا تعني الحرية ؟ فارتفعت أصابعهم متعالية و تواردت إجاباتهم الواحدة تلو الأخرى : الحرية هي أن يقول الإنسان ما يشاء . الحرية هي أن يفعل المرء ما يريد . الحرية هي نقيض العبودية ، و الحر هو نقيض العبد ، كما أن الحرة هي نقيض الأمة ، و الحر في لسان العرب هو الصافي ، الفاخر ، الخالص ، الأعتق ، الأخير و الأفضل . و هو أيضا ولد الظبي و فرخ الحمام و كذا الكريم ، الكثير المطر ، و جيد البقل و الفاكهة ، و وسط الأماكن و أطيبها . الحرية، يا أستاذ، هي أن يذهب الشخص إلى حيث يستهويه الذهاب . الحرية هي أن يختار الفرد ما يحب. الحرية هي أجل هدية قدمها الله لآدم. الحرية هي أن يأخذ الناس ما يعشقون . الحرية هي أن يلعب الطفل كما يشاء و متى يشاء و بما يشاء . الحرية هي أن ألبس و أقص شعري بالشكل الذي يرضيني . الحرية هي جوهر كرامتنا الإنسانية . الحرية ،،،، الحرية يا أستاذ هي ،،،
بابتسامة رقيقة قاطع المعلم التلامذة قائلا، و كان المفتش حينئذ قد انكب على تسجيل ملاحظاته، حسنا. جيدة جدا تعريفاتكم للحرية . أما الآن، فتفضلوا مارسوا حريتكم. ثم أردف مناديا: سعيد، فاطمة، أحمد، قولوا ما يروق لكم قوله. خديجة ، علي ، أمل و صفاء ، اذهبوا إلى حيث تفضلون . عادل ، إبراهيم ، محمد ، نرجس ، خذوا ما ترغبون فيه . أنت ، أنت ، أنت و أنت ، العبوا كما يعجبكم و بالأشياء التي تحلو لكم .
قبل أن ينهي المعلم كلامه التفت طفل و في رمشة عين سحب ورقة ملاحظات المفتش و قفز بعيدا . و ترددت طفلة قليلا ثم انطلقت تردد بصوت عالي : أنا شحرورة ، أنا عصفورة ، أنا حرة أغرد خارج القفص . و انبرت أخرى تحكي و هي تحاول أن تغلق فم جارتها عن الغناء. و فيما ارتفعت أصوات بالاحتجاج من هنا و هناك ، و انزوى زوج خلف المكتب . و واصل ثلاثة ، تارة ، يتراشقون بالأقلام الملونة و بالمساطر و الدفاتر و الكتب ، و تارة يستغفلون المعلم فيرشقونه بقطع الطباشير ، تجوقت ثلة فوق أرضية المنصة و راحت مجموعة تقطع عتبة باب القسم ذهابا و إيابا مرددة نشيدا وطنيا . و في حين كان آخر يرسم على السبورة قمرا و ثعلبا و فرخة حجلة مذعورة ، كان غيره يمسح السبورة و يرسم نهدا و ،،،، أشياء أخرى .
انتفض المفتش متنرفزا . رمق المعلم متوعدا . هرول متعثرا في الزحمة خلف الطفل . شد الطفل من رقبته . انتزع منه الورقة ثم صرخ من داخل الضجيج : الصمت ، أقول الصمت . النظام ، أقول النظام . إلزموا أماكنكم و إلا ،،، سل حزامه و هدد مسوطا في الهواء ، إلزموا الصمت ، أقول و إلا ،،،
عاد الأطفال إلى مقاعدهم . التقطوا أشياءهم المتناثرة و انكمشوا يحدق كل في قفا الجالس أمامه . و من النافذة المسدودة أخذ يتناهى إلى أسماع الجميع صوت ضربات خفيفة ، متقطعة ، على الزجاج . كانت ثمة نحلة تحاول الخروج .
قال المعلم ، دون أن تفارقه ابتسامته الرقيقة ، و الآن ما الذي استخلصتموه ؟ فقال المفتش : تعليم الفوضى يا أستاذ . و رد تلميذ : استخلصنا أشياء كثيرة يا أستاذ . فلوح المفتش بيمينه و تابع و هو يصفق الباب و ينصرف : انتظر تقرير تفتيشك ، انتظر عاقبة تسيبك ، انتظر ،،،
ارتسمت على وجوه الأطفال علامات استغراب و استفهام . فقال المعلم في سره لسره ، على كل حال هما طريقان و طريقي أن أجدى السبل لتعلم الحرية هي الحرية ذاتها لأن الأصل في الأشياء الإباحة و الأصل في الناس الحرية . ثم أعلن لتلامذته ، لا تهتموا ، الذي كان معنا هو السيد ،،، تعني الحكومة يا أستاذ ؟ استفسرت تلميذة من عمق قاعة الدرس . أو ربما يعني القانون أو الدرك أو الأب . علق تلميذ من الزاوية الأمامية اليسرى من القاعة .
اتسعت ابتسامة المعلم و قال : قد يكون الأمر كذلك يا أصدقائي ، لكن لنعد إلى موضوعنا . ما هي تلك الأشياء التي استخلصتموها ؟
قال سعيد : استخلصت أن حريتي في القول و الكلام تكون دون جدوى إذا لم تجد من يسمعني و يفهم كنه تعبيري ؛
قالت خديجة : أدركت أن حريتي لكي تكون جديرة بأن تعاش يجب أن تقف حالما تبتدئ حرية الآخرين ؛
قال عادل : توصلت إلى أني لست حرا في إيذاء ذاتي و أشيائي أو ذوات الآخرين و أشياءهم ؛
قالت نرجس : تأكدت من أني لن أكون حرة و أنا لا أكد و أجتهد و لا أفعل الخير و لا أتسامح و لا أتعاون و لا أشارك ؛
قال علي : و أنا تيقنت من أني لن أكون حرا إذا حرمت غيري من حريته ؛
قالت أخرى : أما أنا فتعلمت أن الحرية هي الفضاء الأنسب لأن أفقه الأشياء و العلوم و أعرف الناس و يعرفني الناس و أحذق الحرية ؛
قال آخر : و أما أنا فتكون لدي الاقتراح التالي ، تعالوا ننشئ دستور القسم ، ميثاق العقل ، ميثاق الحرية .
صفق التلامذة . صفق المعلم و فتح النافذة ... كانت ثمة نحلة تصفق و تطير و تخرج .
القصة الثانية : نحن متساوون و لكننا مختلفون
لاحظ المعلم أن تلامذته لا يستوعبون معنى المساواة بالشكل الصحيح ؛ فكلما صادفوها في الدروس أو استعملوها في المناقشات أو التظلمات إلا و قصدوا منها كل ما يدل على التشابه و التطابق . و لأن خوفه كان يكبر في كل مرة من أن يؤدي بهم ذلك إلى التعود على تنميط الأحكام و بالتالي تبني التمييز و تبريره دون وعي بمخاطره ، و ذلك كأن يصلوا في نظرتهم للناس إلى القول ، مثلا ، إن هؤلاء الأشخاص المختلفون عن أولئك هم متشابهون في ما بينهم و يحملون نفس العيوب أو هم أقل قيمة من غيرهم ، أو كأن يرددوا إنه من الأفضل ألا تكون هناك اختلافات بين البشر ، و يذهبوا إلى حد قبول منع الأفكار المغايرة أو عدم السماح بالاختلاط بين الأفراد الذين لا يحملون نفس الميزات الفردية ،،،،
فكر مليا في الأمر و استحضر كل المعوقات التي يضعها النظام التربوي التعليمي أمام اجتهاداته ، لكنه هز كتفيه غير مبال و قرر أن يفعل شيئا جيدا و إن لم يعجب السيد المفتش أو تعارض صراحة مع ما تمليه عليه المذكرات و التعليمات الرسمية .
رتب لوازمه . و خلال الحصة الموالية قال برقة : أعيدوا كتبكم و كراساتكم المدرسية إلى المحافظ . اليوم سنعمل من أجل فهم مشترك للمساواة . ثم وزع على كل من تلامذته ورقة تحمل إطارا تخطيطيا لصورة شخص . و طلب من كل واحد أن يرسم عليه نفسه . تضاحك الأطفال . أخرجوا أقلامهم الملونة و شرعوا في العمل . مثلهم فعل المعلم .
تساءلت بنت و هي تخبئ ابتسامة رقراقة خلف كم وزرتها : من يذكرني بشكل أذناي ؟ و أسر طفل لجاره : و الله لن أفعل فهذا حرام . و استعار آخر مرآة و راح يتطلع إلى وجهه ثم واصل الرسم . و قالت أخرى لقرينتها الجالسة أمامها : التفتي نحوي لأنظر فيك قليلا ، فقاطعها طفل من الخلف معلقا : لا داعي لذلك فهي أجمل منك . و وقفت طفلة قبالة مجموعة القسم و هتفت : أعطوني قلما أبيض فأنا أنصع من لون هذه الورقة ، و ،،،
بعد عشر دقائق ، قام المعلم من مكتبه . رفع رسم صورته إلى مستوى صدره . حدق فيه التلامذة لبرهة ثم ضجوا ضحكا . قال : الآن ، رجاء أن يفعل كل واحد منكم هكذا مثلي ، و أن يقدم نفسه إلينا . و حبذا لو يحدثنا أيضا عن هوايته و عما يحب و ما يكره و كذا عن آماله . ثم أردف : أما أنا فاسمي احماد ندير . ولدت في زاﮔورة . عمري ثمانية و أربعون سنة . مجاز في الشريعة الإسلامية . تخرجت من كلية فاس . أسكن حاليا هنا في المحمدية . متزوج بدون أولاد . أمارس رياضة الشطرنج ، لكنني غير متفوق فيها . أنتمي لحزب يتغيى الخير للوطن . أحب كل ما هو جميل و وديع و شاعري . أكره النفاق و الفقر و الاستبداد و العنف . آمل في أن تتحسن وضعيتي المالية لأتشجع على إنجاب أطفال و لأنعم رفقة أسرتي بقليل من رغد العيش .
كف المعلم . و على منواله أخذ التلامذة الواحد تلو الآخر يقدمون أنفسهم . قالت أولى المتحدثات : صورتي جميلة أليس كذلك ؟ أنا سعيدة توأم شقيقتي مسعودة ، لكني أكبرها بثلاثين دقيقة ، لن أخبركم بسني الحقيقي فيكفيكم أن تعلموا أني من مواليد شهر فبراير ، أحب الورد و الغسق و أكره الظلام و الشوك . و بعد العاشر قال الذي يليه : أنا أحمد يتيم الأبوين ، يسمونني في " الإصلاحية " الحدث الجانح رقم 8 و ذلك رغم أني لم يسبق لي أن سرقت أكثر من قطعة رغيف و شكولاتة ، آمل في أن أصبح ربان طائرة . و بعد أن رفض التاسع و الثلاثون التحدث ، بسملت الأخيرة و تابعت قائلة : لا تستغربوا إن رسمت نفسي عارية الرأس و متوردة الوجنتين فالحجاب الذي تعودتم دائما على رؤيتي به هو مجرد منديل لستر فقر أسرتي . إني أحب الله و النبي محمد ( ص ) و كل رجائي أن أتمكن ذات يوم من إنقاذ إخوتي من حياة الشقاء ،،،،
أشار المعلم إلى جدران قاعة الدرس قائلا : تعالوا نعلق صورنا الجميلة . علق الجميع إلا واحد صورهم . علقت طفلة : رغم أن الألوان و الإطارات التخطيطية كانت واحدة فلا أحد منا جاء شبيها للآخر . و في الطريق إلى المقاعد أخبر المعلم التلامذة بأنهم سينتقلون إلى الاشتغال وفق الخطوتين التاليتين : في الخطوة الأولى ، سيتوزعون إلى مجموعات صغيرة العدد ، حيث سيكون مطلوب من كل مجموعة أن تعين من بين أفرادها مسيرا (ة) للجلسة و مقررا (ة) للأشغال و ضابطا (ة) للوقت و حريصا (ة) على الأهداف ، و أن تناقش في ذلك جملة الأفكار التي تم إدراكها حول المساواة ، و ذلك من خلال ما أوحت به مقارنة الصور المرسومة مع بعضها و قادت إليه المعلومات التي أدلى بها كل واحد عن نفسه ، و أن يحرر المقررون النتائج التي تم التوصل إليها . و في الخطوة الثانية ، سيختلي المقررون ببعضهم من أجل أن يعيدوا ترتيب الأفكار التي تضمنتها تقارير المجموعات و يصنفوا أهم خلاصاتها ثم يركبوها ليعرضوها أمام الجميع إثر انتهاء الوقت المحدد .
أثناء الاشتغال ، كان النقاش يحتد في كل مكان ، لكن لا أحد أهان زميله أو ضربه . و كان المكلفون بمهام يسعون ، كل في إطار مسؤوليته ، إلى تلطيف الأجواء ، أو يذكرون بجدول الأعمال ، أو يطالبون باحترام نوبات الكلام ، أو يستعجلون بعضهم في الإدلاء بالرأي ، أو ،،، و كان هناك غاضبون . تأفف أكثر من طفل و توجه أحدهم إلى المعلم محتجا : إن عددنا في القسم كثير جدا و المقاعد غير مريحة بتاتا . فرد آخر : و هل تعتقد أن الأستاذ هو المسؤول عن ذلك ؟ و بين الفينة و الأخرى ظلت طفلة تردد : أوه ، أوه ، خفضوا أصواتكم من فضلكم فأنا لا أستطيع أن أركز تفكيري .
كانت عشرون دقيقة قد مرت حين أعلن المقررون بنبرات منتشية : أنهينا العمل ، النتائج جاهزة يا أستاذ . ثم تقدموا إلى المنصة و راحوا يتلون ما دونوه كما لو كانوا ينشدون :
نحن متساوون ....
لنا كلنا بعض الأشياء المشتركة .
كلنا نحتاج إلى الهواء و الماء و الغذاء .
كلنا نولد ننمو و نقيم علاقات مع آخرين .
هناك أشياء تفرحنا أو تعجبنا . و هناك أشياء تخيفنا أو تفزعنا .
كلنا نحتفظ بذكريات عن فترات جميلة و بذكريات نود نسيانها .
جميعنا نحتاج إلى أصدقاء و نبحث عنهم .
كلنا آمال و أحلام .
..... و لكننا مختلفون .
كل شخص هو فريد . لا يوجد في العالم شخصان متطابقان في التشابه .
لكل شخص بدن و تاريخ .
لكل واحد اسم و وجه .
الذي ينال إعجاب البعض يبدو كريها أو مملا بالنسبة للبعض الآخر .
واحد يعجبه الاستلقاء فوق العشب و التملي في الطيور ، و الآخر يفضل الاستماع في بيته إلى الموسيقى بصوت صاخب .
هذا يقرأ بحماس و حميمية ، و الآخر يفضل لعب الكرة .
هناك العديد من أشكال مختلفة للحياة .
كل شخص هو فريد ، لا يوجد في العالم شخصان متطابقان في التشابه .
الأشخاص يكونون تكامل و وحدة مجموعات أو جماعات لها عاداتها الخاصة . أسرنا ، الأصدقاء الذين نختارهم أو رفاق المدرسة أو زملاء آبائنا في العمل ، هم من المجموعات التي قد نعرفها جميعا . في المقابل لا نعرف كل الأشخاص الحاملين لنفس جنسيتنا أو لنفس اعتقاداتنا . كذلك ، هناك أشخاص لنا معهم نفس الخاصيات المشتركة و لو أننا لا ننتسب معا لنفس المجموعة .
براﭭو ، براڤو . لم ننه الموضوع بعد ، في الحصة المقبلة سنواصل . أنا سعيد جدا بكم ..... قالها المعلم بعجالة و هو يجمع أشياءه و يغادر قاعة الدرس . في الباب كان معلم آخر ينتظر أن يدخل .
القصة الثالثة : نحن مختلفون و لكننا متساوون
في حصة موالية أخرى ، فوجئ التلامذة بمعلمهم يدخل قاعة الدرس مهرولا ، و بدل أن تكون في يده محفظته الثقيلة المعهودة كان يحمل كيسا أسود يبدو أن في داخله أية أشياء أخرى إلا أن تكون كتبا أو أوراق فروض مصححة أو بطائق جذاذات تحضير دروس جديدة . و حين اتسعت ابتسامته الرقيقة لتشع لامعة كشمس ربيعية فهموا أنه ، كما هي عادته ، سيحييهم . فبادروه بنبرات كالشدو : صباح الخير يا أستاذ. فرد عليهم : صباحكم كله الخير يا أصدقائي . و بنوع من العتاب الخفيف أضاف : كان أملي أن أكون أنا البادئ بالتحية . ثم وسع من فتحة الكيس و قال : لنتابع عملنا السابق من أجل فهم مشترك للمساواة . أنظروا معي ، و سموا ما ترونه . أسســ ... أســ.. تاذ ... إن ما أراه .... أسسسســـ ... هو بط.... بطا..... أسسســـ طس ، بطاطس ، البطاطس . رددها التلامذة و هم يدفعون بأصبعهم نحو وجهه .
التمس منهم أن يهدأوا و أن تكون إجاباتهم فردية . و قال : أجل إنها بطاطس . لكن عودوا إلى النظر فيها . تمعنوا في حباتها و أجيبوا ، من فضلكم ، هل هي متشابهة أم مختلفة ؟
انقسم التلامذة إلى ثلاثة أرباع قالوا عنها إنها متشابهة و ربع خالفهم الرأي ملحا على أنها مختلفة . تدخل المعلم و قال : بعد قليل سنتأكد من ذلك . لكن و إلى حينه أرجو أن يساعدنا أصدقاؤنا الذين قالوا إنها مختلفة على فهم قولهم هذا .
رفعت فتيحة أصبعها و قالت : أنا مثلا أطول أفراد هذا القسم و أجمل بناته . تهامست البنات المتجاورات و أعلنت إحداهن : أنا جد متفقة ، لكن شريطة أن يكون وصفك لنفسك نسبة إلى ذكر الناقة . ضحك الجميع و معهم ضحكت فتيحة . و قال أحمد : نحن مثلا يسموننا في هذه الثانوية التأهيلية تلامذة الجذع المشترك رقم 5 و ينسون أنه داخل مجموعتنا يوجد أفراد بعضهم ذكور و البعض إناث ، و أنه لكل واحد (ة) منا خاصيات و ميزات خاصة . و قال إدريس : كثيرا ما نسمع بأن أناسا تطلق عليهم تسمية الاتحاديين ، نسبة إلى الحزب الذي ينتمون إليه، و واقع الحال أني كلما تتبعت أحاديث و طلبات و تصرفات جماعة منهم ، دأب أبي على استقبالهم في بيتنا ، إلا و تأكدت من أن هناك كل اتحادي . و قالت نعيمة : أثمن توضيحات صديقاي و أخلص إلى أنه في مقابل الجميع هناك كل واحد ... أي في مقابل الاستقلاليين ، كمثال آخر ، هناك كل استقلالي . و نفس الحال بالنسبة للتجمعيين أو العدليين أو الديمقراطيين الوطنيين، أو الحركيين ، أو التقدميين الاشتراكيين أو الدستوريين أو اليساريين الاشتراكيين ... الخ .
و قال إسماعيل ، إن من خطورة تنميط الناس أنهم ينعتوننا بالعالم الإسلامي المتطرف ، و أننا في المقابل نصفهم بالعالم الكافر الإباحي ، و الحال أنه سواء هنا أو هناك يوجد إرهابيون و إباحيون كما يوجد مسالمون و مؤمنون و كذا أصوليون و حداثيون ... و لنتذكر دائما أنه في ساحة محمد الخامس بالدار البيضاء ، الساحة التي أصبح بعضنا يسميها ساحة جنين كان يتجمع خلال السنة ما قبل السابقة في كل يوم جمعة ابتداء من الساعة السادسة و النصف مساء صفوة من ممثلي فعاليات بلادنا للإعلان عن مساندة شعبنا للفلسطينيين ضد جرائم الدولة الصهيونية المسنودة من قبل الإدارة الأمريكية ، و أن من كان يسبق دائما إلى هذه التجمعات و ينكب على تهيئ أجوائها هو أحد مواطنينا اليهود .
لم يعلن المعلم رأيه في ما قيل . فقط اكتفى بأن قال : حسنا ، لنكتف بهذا القدر من التوضيحات . و لكي نتقدم أكثر في معالجة الموضوع ، أقترح عليكم أن نشتغل في إطار أزواج . ثم وزع على كل زوج حبة بطاطس . و قال : أنتما ، الزوج الأول ، سعيد و أحمد ، أمعنا النظر جيدا في الحبة التي أعطيتها لكما كما هي في هيئتها الطبيعية و تجاذبا النقاش حول شكلها و لونها و حجمها و نتوءاتها ... الخ ، ثم حررا وصفا مركزا بناء على ذلك . و أنتما ، الزوج الثاني ، عائشة و محمد ، اعتبرا الحبة التي بين أيديكما بشرا ، و بالتالي أطلقا عليها اسم شخص ذكر و اكتبا وصفا له كما توحي لكما به مع عدم إغفال التحدث عن آماله و تطلعاته و غيرهما . أما أنتما الزوج الثالث ، سناء و بشرى ، فاعتبرا حبتكما هي أيضا بمثابة بشر ، لكن أطلقا عليها اسم أنثى ، و على نفس المنوال هيئا الوصف الذي تريان أنه يناسبها . و أنتما الزوج الرابع، و الزوج الخامس و السادس و ... فافعلوا ، و على التوالي ، مثل زملائكم في الأزواج السابقة .
بعد خمسة دقائق ، و قبل أن يشرع التلامذة في استعراض إنشاءاتهم دعا المعلم أربعة منهم إلى تتبع العملية بكل ما تتطلبه من إصغاء نشيط و إعمال فعال لتقنية أخذ النقط و إلى تتويج ذلك بصياغة تقرير مركز حول أهم الخلاصات التي تم التوصل إليها بخصوص الموضوع قيد المعالجة .
توالت عروض الأزواج و كان عددها عشرون زوجا . و عن سابع زوج قال إبراهيم و هو يرى علامات المتعة تعلو وجوه أقرانه : هذه هي التي كانت من حظنا ، هي حبة بطاطس طبيعية ، لونها قريب من الأصفر المشوب بالأخضر ، قشرتها ملساء تتخللها أفنان مجتثة ، شكلها بيضوي ، و رغم أنها تبدو فتية فإنها سميكة و غنية ، لكنها قد لا تخلو من تسوس في قلبها . و عن الزوج الثامن قالت نبيلة و كان زميلها يحمل عاليا حبتهما و هو يحاول جاهدا التكتم عن ضحكة كانت تغالبه : أما هذه فسميناها كريم ، و هو كما ترونه يافع لا يتجاوز العشرين من عمره ، و هو من فرط تخمته يصعب التمييز بين مفاصل جسمه . عيناه صغيرتان ، غائرتان بدون أهداب و لا حاجبين ، أصلع القفا و القنة ، لا يتابع دراسة و لا يشتغل ، و ذلك ربما لأن أملاك أسرته لا تحصى و لا تعد . من مشاكله أن صديقاته العديدات ترفضن الخروج معه إلى الشارع العام . هو طيب ، و يهوى سباق الدراجات لكنه لا يمتطيها .
قاطعها المعلم و تساءل ملوحا برأسه : ألا تكونين أيتها العفريتة المشاغبة تقصدينني أنا بالضبط من هذا الوصف ؟ فضحك الجميع ببراءة و تعالت أصواتهم بالنفي . و عن الزوج التاسع قالت رحمة : و أما هذه فسميناها غيثة ، مهنتها مربية ، طويلة القامة ، رشيقة القد ، واسعة العينين ، كثيفة الأهداب ، دقيقة الحاجبين ، وردية الخدين بدون مساحيق ، ناعمة الملمس ، حنونة ، تعشق السياحة و الأسفار .... و لأنها تقارب الثلاثين يؤرقها أنها لم يتقدم ، بعد ، أي واحد لطلب يدها بغرض الزواج .
تأسف بعض الأطفال لحال غيثة ، و قال أحدهم : امرأة بكل هذا الجمال ؟ هاتوها لي ، فأنا مستعد ليس لتزوجها بل و حتى لقليها و أكلها أكلا.....
تابعت الأزواج الاخرى إلقاء عروضها . و حين انتهى دور الزوج العشرين ، قال المعلم : و الآن ، و بعد أن استمعنا إلى سبعة أوصاف لسبعة حبات من البطاطس كما هي عليه ، و لسبعة أوصاف لها منظور إليها كبشر ذكور ، و لستة أخرى منظور إليها كبشر إناث ، كيف هي البطاطس إذن ؟ متشابهة أم مختلفة ؟ فرد معظم الأطفال دفعة واحدة : هي مختلفة يا أستاذ . عندها تقافز المقررون الأربعة إلى المنصة و أنشدوا :
..... نحن مختلفون .....
لكل شخص اسم و هوية تكونت خلال تاريخه و مشاركته في ثقافة معينة .
كل شخص هو فريد و لا يتكرر .
كل فرد يمتلك تجارب شخصية و ينمي عواطفه و أفكاره بطريقته الخاصة .
كل فرد يترك أثرا في العالم و يجد الآثار التي خلفها آخرون قبله .
كل فرد يمتلك الحق في بناء هويته الخاصة و الحفاظ عليها .
..... و لكننا متساوون.....
كل البشر متساوون .
كلنا لنا نفس الكرامة و نفس الحقوق . لنا حقوق يعني أننا جميعا نستحق العيش فوق الأرض ، و لكل واحد مكان فيها ليسعد بحسب مشاريعه الخاصة .
كلنا مسؤولون عن حقوق كل واحد .
كل واحد يستطيع و هو ملزم بصيانة حقوق الآخرين .